سوريا في الحقبة البوتينية الرابعة: لا تنازلات سياسية تُفقد موسكو إنجازاتها العسكرية
الفوز الكاسح في الانتخابات الرئاسية الروسية، يعزّز طموحات الرئيس فلاديمير بوتين، للمضي في مشروع التوازن مع الدول الغربية وبناء علاقات ندّية. فالسياسة الخارجية التي حدّد معالمها الرئيس فلاديمير بوتين، وبخاصة في العقد الأخير، اتسمت بالواقعية والمنطقية المبنية على فرض التصورات، والتصدي لمحاولات الهيمنة الغربية، بالإضافة لتطبيق استراتيجية طويلة الأمد لتحقيق المصالح الروسية والتعامل ببراغماتية مع التحولات والتطورات الإقليمية والدولي
التصلب الروسي بشقّيه السياسي والعسكري في الملف السوري، محور رئيس في الصراع مع الولايات المتحدة الأمريكية، حيث بدا واضحاً في أكثر من مفصل ومسار شهده المسرح السوري.
فقد شهد العام الماضي صعوداً للرؤية الروسية للحل السياسي في سوريا، بعد المكاسب التي تحققت في مجال محاربة الإرهاب، وإحراج التحالف الدولي. تمكّنت موسكو من دفع طهران وأنقرة للتوافق معها حول مسار «أستانة»، وقد ضغطت أنقرة على عدد هام من الفصائل لحضور المفاوضات، نتيجة ضيق خياراتها العسكرية، وحصولها على مزايا اقتصادية، وأنتج مسار التفاوض اتفاقية «خفض التصعيد»، التي قامت على أساس تهدئة الصراع تمهيداً للحل السياسي، ومواجهة المخطط الأمريكي، بغزو سوريا انطلاقاً من الأردن وقاعدة التنف، ودفع المعارضة السياسية لاحقاً، للقبول بمسار التسوية بسقف محدد، يستبدل مطالبها من الحكم الانتقالي بحكومة مشتركة.
عملت موسكو من أجل إنجاح رؤيتها في الاستمرار بمحاربة الإرهاب والضغط على مختلف الفصائل المسلحة، لفصل تداخلها مع «النصرة» وقبول جلوسها على طاولة المباحثات، في بيئة معقدة ومتداخلة مثل الميدان السوري، وحاولت قدر الإمكان الاستفادة من اضطرار الإدارة الأمريكية الجديدة (العام الأول من ولاية ترامب)، الانخراط في عدد من الملفات الكبرى، إضافة إلى العقبات الداخلية التي ظهرت أمام الرئيس الأمريكي، وبالفعل فإن إدارة ترامب، ومن ورائها الدول الأوروبية الفاعلة، لم تُظهر ردود أفعال عالية المستوى تجاه الرؤية الروسية، في ظل حاجة دولية للدور الروسي في ضبط الصراع العسكري، ومحاولة التخفيف من ارتداد الإرهاب، ومحاولة احتواء إيران في سوريا والمنطقة كما ترغب هذه الدول. وهو الاحتواء الذي سقط الرهان عليه بعد حادثة إسقاط طائرة F16 «إسرائيلية»، وازدياد المخاوف من تصاعد احتمالات مواجهة بين محور المقاومة و «إسرائيل» في الميدان السوري.
حتى «مؤتمر الحوار الوطني» الذي دعت له روسيا في سوتشي وُضع أمامه العديد من العقبات، وهو ما اضطرها إلى تأجيله لمرتين، إلا أن موسكو أصرّت على عقده، فثمة حاجة لدى الرئيس بوتين لإحراز نصر سياسي في سوريا، ليس فقط لصرفه في دائرة الانتخابات الرئاسية التي جرت، بل تفادياً لارتفاع وتيرة الصدام والصراع مع واشنطن، التي سلّمت مقاليد حكمها وإدارة سياسة خارجيتها، لمؤسسات الدولة العميقة وصقورها العسكريين والأمنيين. وهو ما دفع العديد من قوى المعارضة لرفض فعلي لمخرجات المؤتمر، بما فيها بعض القوى التي كانت قد أيّدت عقده، ومن ثم اعترضت على شروطه، من حيث الشكل والمضمون بعد الضغط الأمريكي، الذي تقصّد تسريب ورقة (اللاورقة)، وبدأ بتوزيع الأدوار على الدول الأوروبية في إعادة سيمفونية الكيميائي، والملف الإنساني ليكونا «حصان طروادة»، وتبرير تدخل عسكري جرى التمهيد له في التنف، لاستهداف العاصمة دمشق وخلط الأوراق من جديد. تزامناً مع إعلان الولايات المتحدة بقاء قواتها شرق وشمال الفرات إلى أجل غير مسمى، وعزمها على تشكيل قوات من 30 ألف مقاتل لحماية الحدود الشمالية، كما وجهت ضربة لقوات سوريا وروسية حاولت التقدم شرق النهر.
في ظل هذه التعقيدات، المتمثلة بالتصعيد الميداني، وما وازاها من كباش سياسي شهده مجلس الأمن، إثر المناقشات التي دارت حول قرار 2401، وما تلاها من تهديدات أمريكية وبريطانية وفرنسية حول استهداف دمشق، أنهى حقبة ثالثة من ولاية بوتين بخطاب نووي رادع، أمام مجلس الأمة الروسي يشمل سوريا، مبشّراً بحقبة رابعة عنوانها أن روسيا لن تقدم تنازلات سياسية تفقدها إنجازاتها العسكرية في سوريا. هذا السياق الذي يفرض بيئة هشة حتى اللحظة، فيما يتعلق بالحل السياسي، وبيئة متوترة من الصراع أعلنت موسكو أنها مستعدة لخوضه، في حال تهورت واشنطن بمغامرة عسكرية في سوريا. وعليه يمكن قراءة المشهد السياسي السوري من المنظور العسكري الروسي، وأسباب تصلبه وفق المعطيات التالية:
1 – المضي قدما في إضعاف الدور الأمريكي، على الأرض السورية خاصةً وفي المنطقة عموماً، وإظهار عدم جدية واشنطن في التعامل مع ما يسمى المعارضة، إلا في إطار توظيفهم ضمن دائرة التنفيذ للأجندات الأمريكية، في تحقيق مصالحها بمواجهة روسيا وإيران، وهذا ما تضمنه الاتفاق المبرم نهاية عام 2017، بين وكالتي الأمن القومي الصهيو– أمريكية؛ الذي تم الاتفاق فيه على أن يكون الدعم للقوى الكردية، بهدف تقسيم المنطقة، ووضع جدار عازل بين محور دول المقاومة، واستنزاف الجيشين السوري والروسي.
2 – التوجه الروسي نحو إحراج التحالف الدولي، المتذرع بمحاربة الإرهاب، كمظلة لتوسيع نفوذ دوله في المنطقة، وفي مقدمتها واشنطن، وإظهار المقدرات العسكرية النوعية التي يمتلكها الجيش الروسي، والكفاءة القتالية للجيش السوري في القضاء على الإرهاب، بفترة زمنية لا تتعدى ربع المدة التي تحدثت عنها دول التحالف.
3 – جاء التدخل الروسي ليقوّض الحملة الإعلامية، والاستراتيجية العسكرية التي تتبعها الدول المعتدية على سوريا، ضد الحكومة السورية ممثلةً بالتمويل الخليجي، والتبعية الأوروبية لإملاءات واشنطن، الأمر الذي أضعف من فعالية هذه الاستراتيجية الأمريكية على الأرض السورية، وقلَبَ الرأي العام العالمي تجاهها، وخاصة بعدما تحول الإرهاب من أداة وظيفية، إلى عابر للحدود الجغرافية السياسية، بما في ذلك الحدود الأوروبية.
4 – الحفاظ على وحدة التراب السوري ومنع الدولة السورية من التفكك والانقسام حسب المنظور الروسي، وهذا ما أكده الرئيس بوتين في كلمته التي ألقاها في (نادي فالداي الحواري)، بتاريخ 24 تشرين الأول 2015 عندما أشار، إلى أن (الإرهابيين كانوا قاب قوسين أو أدنى، من العاصمة السورية) بما تمثله سوريا من صمّام أمان ليس للمنطقة فقط، بل للعالم.
5 – رغبة القيادة الروسية في الحفاظ على ما أوجدته لنفسها من موقع هام ومتقدم، كلاعب أساسي في منطقة الشرق الأوسط، وجعل اللاعبين الآخرين ينظرون إلى هذا التغيير بشكل سليم، فرض عليهم ضرورة التعامل معه بواقعية وجدية، وهذا تمثل بزيارات نتنياهو السبعة لموسكو في أقل من عام، وانضباط الدور التركي جزئياً في إطار التنسيق مع موسكو.
روسيا البوتينية التي عادت بقوة للمنافسة في القطبية الدولية، لن تتخلى عن مكاسبها التي شكّلت سوريا بوابة من أهم بواباتها، لأهمية سوريا من الناحية الجيوسياسية، في عقدة الطرق الدولية وبخاصة الممر الأوراسي، الذي تبناه بوتين منذ عام2004، وهي لن تسمح بأن يتحول موقف سوريا من دولة حليفة إلى أرض خصبة للإرهاب، قد تهدد موسكو وتحبط طموحات قيصرها.
محمد العمر ي – الايام